فصل: تفسير الآية رقم (17):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الشعراوي



.تفسير الآية رقم (17):

{قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ (17)}
كلمة: {نَسْتَبِقُ} [يوسف: 17] تعبر عن بيان تفوُّق ذات على ذات في حركة ما؛ لنرى من سيسبق الآخر؛ فحين يتسابق اثنان في الجري نرى مَنْ فيهما سبق الآخر؛ وهذا هو الاستباق.
وقد يكون الاستباق في حركة بآلة؛ كان يمسك إنسان ببندقية ويُصوِّبها إلى الهدف؛ ويأتي آخر ويمسك ببندقية أخرى ويحاول أن يصيب الهدف؛ ومَنْ يسبق منهما في إصابة الهدف يكون هو المتفوق في هذا المجال.
وقد يكون الاستباق في الرمي بالسهام؛ ونحن نعرف شكل السهم؛ فهو عبارة عن غُصْن مَرنٍ، يلتوي دون أن ينكسر؛ ومُثبَّت عليه وتر، ويوضع السهم في منتصف الوتر، ليشده الرامي فينطلق السهم إلى الهدف.
وتُقَاسُ دقة إصابة الهدف حسب شدة السهم وقوة الرمي، ويسمى ذلك (تحديد الهدف).
أما إذا كان التسابق من ناحية طول المسافة التي يقطعها السهم؛ فهذا لقياس قوة الرامي.
وهكذا نجد الاستباق له مجالات متعددة؛ وكل ذلك حلال؛ فهم أسباط وأولاد يعقوب، ولا مانع أن يلعب الإنسان لُعْبة لا تُلهِيه عن واجبه؛ وقد تنفعه فيما يَجِدُّ من أمور؛ فإذا التقى بعدو نفعه التدريب على استخدام السهم أو الرمح أو أداة قتال؛ واللعب الذي لا يَنْهي عن طاعة، وينفع وقت الجد هو لَعِب حلال.
وهناك ألعاب قد لا يدرك الناس لها غاية مثل كرة القدم.
وأقول: قد يوجد عَدوَّانِ؛ وبينهما قنبلة موقوتة؛ ويحاول كل طرف أن يبعدها عن موقعه، والقوة والحكمة تظهر في محاولة كل فريق في إبعاد الكرة عن مرماه.
ولكن لابد ألا يُلْهِي لعب الكرة عن واجب؛ فمثلاً حين يؤذن المؤذن للصلاة، والوَاجب علينا ألا نهمل الصلاة ونواصل اللعب، وعلى اللاعبين أن يُراعُوا عدم ارتداء ملابس تكشف عن عوراتهم.
وأبناء يعقوب قالوا: {وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا...} [يوسف: 17].
وفي هذا إخلال بشروط التعاقد مع الأب الذي أذِنَ بخروج يوسف بعد أن قالوا: {أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ} [يوسف: 12].
وقالوا: {وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ} [يوسف: 11].
وقالوا: {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [يوسف: 12].
فهل أخذتموه معكم ليرتع ويلعب، ويأكل من ثمار الأشجار والفاكهة؛ وتحفظونه، أم ليحفظ لكم متاعكم وأنتم تستبقون. وهذا أول الكذب الذي كذبوه؛ وهذه أول مخالفة لشرط إذن والده له بالخروج معكم؛ ولأن (المريب يكاد يقول خذوني) نجدهم قد قالوا: {فَأَكَلَهُ الذئب وَمَآ أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} [يوسف: 17].
أو: أنهم قالوا ذلك لأنهم يعلمون أن والدهم لن يُصدِّقهم مهما قالوا. ونعلم أن (آمن) إما أن تتعدى إلى المفعول بنفسها مثل (آمنه الله من الجوع)، أو قوله الحق: {وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ} [قريش: 4].
أو: تجئ بالباء، ويُقال (آمن به) أي: صدَّق واعتقد.
أو: يُقَال (آمن له) أي: صدَّقه فيما يقول.
وهم هنا يتهمون أباهم أنه مُتحَدٍّ لهم، حتى ولو كانوا صادقين، وهم يعلمون أنهم غير صادقين؛ ولكن جاءوا بكلمة الصدق ليداروا كذبهم.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: {وَجَآءُو على قَمِيصِهِ....}.

.تفسير الآية رقم (18):

{وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (18)}
كأن قميص يوسف كان معهم. ويُقال: إن يعقوب علِّق على مجيء القميص وعليه الدم الكذب بأن الذئب كان رحيماً، فأكل لحم يوسف ولم يُمزِّق قميصه؛ وكأنه قد عرف أن هناك مؤامرة سيكشفها الله له.
ويصف بعض العلماء قصة يوسف بقصة القميص: فهنا جاء إخوته بقميصه وعليه دم كذب.
وفي أواسط السورة تأتي مسألة قميص يوسف إن كان قد شُقَّ من دُبُرٍ لحظة أنْ جذبتْه امرأة العزيز لتراوده عن نفسه.
وفي آخر السورة يرسل إخوته بقميصه إلى والده فيرتد بصره.
ولهذا أخذ العلماء والأدباء كلمة القميص كرمز لبعض الأشياء؛ والمثل هو قول الناس عن الحرب بين علي رضي الله عنه ومعاوية رضي الله عنه أن معاوية أمسك بقميص عثمان بن عفان طلباً للثأر من علي، فقيل (قميص عثمان) رمزاً لإخفاء الهدف عن العيون، وكان هدف معاوية أن يحكم بدلاً من علي بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين.
وهنا يقول الحق سبحانه: {وَجَآءُو على قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ} [يوسف: 18]، وكأن القميص كان معهم، ووضعوا عليه دماً مكذوباً، لأن الدم لا يكذب، إنما كذب من جاء بدم الشاة ووضعه على القميص.
وشاء الحق سبحانه هنا أن يُعطي الوصف المصدري للمبالغة؛ وكأن الدم نفسه هو الذي كذب؛ مثلما تقول (فلان عادل) ويمكنك أن تصف إنساناً بقولك (فلان عَدْل) أي: كأن العدل تجسَّد فيه، أو قد تقول (فلان ذو شر)، فيرد عليك آخر (بل هو الشر بعينه)، وهذه مبالغة في الحديث.
وهل كان يمكن أن يُوصف الدم بأنه صادق؟
نقول: نعم، لو كان الذئب قد أكل يوسف بالفعل؛ وتلوَّث قميص يوسف بدم يوسف وتمزق. ولكن ذلك لم يحدث، بل إن الكذب يكاد يصرخ في تلك الواقعة ويقول (أنا كذب).
فلو كان قد أكله الذئب فعلاً؛ كان الدم قد نشع من داخل القميص لخارجه؛ ولكنهم جاءوا بدم الشاة ولطخوا به القميص من الخارج.
وبالله، لو أن الذئب قد أكله فعلاً، ألم تكُنْ أنيابه قد مزَّقَتْ القميص؟
وحين انكشف أمرهم أمام أبيهم؛ أشار أحدهم خفية للباقين وقال لهم همساً: قولوا لأبيكم: إن اللصوص قد خرجوا عليه وقتلوه؛ فسمع يعقوب الهمس فقال: اللصوص أحوَجُ لقميصه من دمه؛ وهذا ما تقوله كتب السير.
وهذا ما يؤكد فراسة يعقوب، هذه الفراسة التي يتحلى بها أيُّ محقق في قضية قتل؛ حين يُقلِّب أسئلته للمتهم وللشهود؛ لأن المحقق يعلم أن الكاذب لن يستوحي أقواله من واقع؛ بل يستوحي أقواله من خيال مضطرب.
ولذلك يقال: (إن كنت كذوباً فكُنْ ذَكُوراً).
ويأتي هنا الحق سبحانه بما جاء على لسان يعقوب: {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ والله المستعان على مَا تَصِفُونَ} [يوسف: 18].
(والسَّوَل): هو الاسترخاء؛ لأن الإنسان حين تكون أعصابه مشدودة؛ ثم يحب أن يسترخي، فيستريح قليلاً، وبعد ذلك يجد في نفسه شيئا من اليُسْر في بدنه ونبضه.
ونأخذ {سَوَّلَتْ...} [يوسف: 18] هنا بمعنى يَسَّرت وسهَّلتْ، وما دامت قد سوَّلتْ لكم أنفسكم هذا الأمر فسوف أستقبله بما يليق بهذا الوضع، وهو الصبر.
{فَصَبْرٌ جَمِيلٌ...} [يوسف: 18].
والذين يحاولون اصطياد خطأ في القرآن يقولون (وهل يمكن أن يكون الصبر جميلاً؟).
نقول: هم لا يعرفون أن الصبر يُقال فيه (اصبر عن كذا) إذا كان الأمر عن شهوة قد تُورِث إيلاماً؛ كأن يُقال (اصبر عن الخمر) أو (اصبر عن الميسر) أو (اصبر عن الربا).
ويُقال (اصبر عن كذا) إذا كان الصبر فيه إيلام لك. والصبر يكون جميلاً حينما لا تكون فيه شكوى أو جزع.
والحق سبحانه يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم: {واهجرهم هَجْراً جَمِيلاً} [المزمل: 10].
وهؤلاء الذين يبحثون عن تناقض أو تضارب في القرآن إنما هم قوم لا يعرفون كيفية استقباله وفهمه؛ وقد بيَّن لنا يعقوب عليه السلام أن الصبر الجميل هو الصبر الذي لا شكوى فيه، وهو القائل: {إِنَّمَآ أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى الله...} [يوسف: 86].
وهكذا نعلم أن هناك فارقاً بين الشكوى للربِّ؛ وشكوى من قدر الربِّ.
ولذلك يقول يعقوب عليه السلام هنا: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ..} [يوسف: 18]، ويتبعها: {والله المستعان على مَا تَصِفُونَ} [يوسف: 18]، كأن الصبر الجميل أمر شاقٌّ على النفس البشرية، ولم يكُنْ يعقوب قادراً على أن يُصدِّق ما قاله أبناؤه له؛ فكيف يُصدِّق الكذب؟ وكيف يمكن أن يواجه أبناءه بما حدث منهم؟ وهم أيضاً أبناؤه؛ لكنه كان غير قادر على أن يكشف لهم كذبهم.
والمثل لذلك ما جاء في التراث العربي حين قِيلَ لرجل: إن ابنك قد قتل أخاك، فقال:
أقولُ لنفسِي تأساء وتعزيةً ** إحدى يديَّ أصَابتْنِي ولم تُردِ

كِلاهُمَا خلف عَْن فَقْدِ صاحبِه ** هذا أخي حين أدعُوه وذَا ولدِي

ومثل هذه المواقف تكون صعبة وتتطلب الشفقة؛ لأن مَنْ يمر بها يحتار بين أمر يتطلب القسوة وموقف يتطلب الرحمة؛ وكيف يجمع إنسان بين الأمرين؟
إنها مسألة تعزُّ على خَلْق الله؛ ولابد أن يفزع فيها الإنسان إلى الله؛ ولذلك علَّمنا صلى الله عليه وسلم أنه إذا حزبه أمر قام إلى الصلاة؛ وحزبه أمر ما يعني: أن مواجهة هذا الأمر تفوق أسباب الإنسان؛ فيلجأ إلى المُسبِّبِ الأعلى؛ ولذلك قال يعقوب عليه السلام: {والله المستعان على مَا تَصِفُونَ} [يوسف: 18].
وقوله: (تصفون) يعني: أنكم لا تقولون الحقيقة، بل تصفون شيئاً لا يصادف الواقع، مثل قوله تعالى: {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الكذب هذا حَلاَلٌ وهذا حَرَامٌ...} [النحل: 116].
أي: أن ألسنتكم نفسها تَصِفُ الكلام أنه كذب.
والحق سبحانه يقول: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ العزة عَمَّا يَصِفُونَ} [الصافات: 180].
وتعني أن هؤلاء الذين قالوا ما قيل عنه أنه وصف قد كذبوا فيما قالوا؛ وكان مصير كذبهم مفضوحاً.
{فَصَبْرٌ جَمِيلٌ والله المستعان على مَا تَصِفُونَ} [يوسف: 18].
وهكذا عبّر يعقوب عليه السلام عن نفسه؛ فالجوارح قد تكون ساكنة؛ لكن القلب قد يزدحم بالهموم ويفتقد السكون؛ لذلك لابد من الاستعانة بالله.
وقد علَّمنا الحق سبحانه أن نقول في فاتحة الكتاب: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5].
فأنت تقف لعبادة الله وبين يديه؛ لكن الدنيا قد تشغلك عن العبادة أثناء أداء العبادة نفسها: لذلك تستعين بخالقك لتُخلِص في عبادتك.
وبعد أن عرض الحق سبحانه لموقف الأب مع أولاده، نأتي لموقف يوسف عليه السلام في الجُبِّ.
يقول سبحانه: {وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ..}.

.تفسير الآية رقم (19):

{وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلَامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (19)}
ولم يَقُلِ الحق سبحانه من أين جاء السيارة؟ أو إلى أين كانوا ذاهبين؟
والمقصود بالسيارة هم القوم المحترفون للسير، مثل مَنْ كانوا يرحلون في رحلة الشتاء والصيف؛ بهدف التجارة وجَلْب البضائع.
وكانت السيارة لا تنتقل بكامل أفرادها إلى البئر، بل يذهب واحد منهم إلى البئر؛ ليأتي لهم بالمياه ويُسمَّى الوارد، وذهب هذا الوارد إلى البئر ليُحضِر لبقية السيارة الماء وألقى دَلْوه في البئر؛ ويسمى حبل الدلو الرشاء.
وحين نزل الدلو إلى مستوى يوسف عليه السلام تعلق يوسف في الحبل؛ فأحسَّ الوارد بثقل ما حمله الرشاء؛ ونظر إلى أسفل؛ فوجد غلاماً يتعلق بالدلو فنادى: {يابشرى هذا غُلاَمٌ} [يوسف: 19].
أي: أنه يقول يا بشرى هذا أوانك؛ وكأنه يبشر قومه بشيء طيب؛ فلم يحمل الدلو ماء فقط، بل حمل غلاماً أيضاً.
ويقول الحق سبحانه: {وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً} [يوسف: 19].
أي: أنهم أخفوْه وعاملوه كأنه بضاعة، ولم يتركوه يمشي بجانبهم؛ خشية أن يكون عبداً آبقاً ويبحث عنه سيده؛ وهم يريدون بيعه.
ويذيل الحق سبحانه الآية بقوله: {والله عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} [يوسف: 19].
وهذا قول يعود على مَنْ أسرُّوه بضاعة؛ وهم الذين عرضوه للبيع. ثم يقول الحق سبحانه: {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ...}.